الشاعر مـظفر الـنـواب..بغداد في مخيلتي أبداً.. تقاوم الإمحاء وكنت أستعيدها في كل لحظة

الشاعر مـظفر الـنـواب..بغداد في مخيلتي أبداً.. تقاوم الإمحاء وكنت أستعيدها في كل لحظة

  • 1156
  • 2020/12/08 08:34:56 م
  • 0

حوار: علاء المفرجي

في الطريق الى مكان إقامته مع زميلي علي حسين، كنت معبّأً بفكرة واحدة تغذيها طبيعة مهنتي ، وهي أن أستأثر بحوار مع الشاعر الذي لطالما ملأ الدنيا وشغل الناس بالأسلوب الذي اختاره لحياته، وبشعره الذي تماهى في ملاحم الثورات ونزيف المحرومين..

قيل عنه: (انه من منطقة شعرية محظورة).. خمسة عقود من الرفض والمكاشفة والقصائد المهربة مثل منشور سياسي.

مظفر النواب هبط بالشعر من علياء الاولمب إلى حيث مزاج العامة، أولئك الذين وجدوا في شعره انعكاساً لآلامهم.. هو لم يكتف بذلك بل حمل روحه الشعرية على راحتيه وانغمس معهم في الكفاح من اجل خبزهم وحريتهم.. إنه التجسيد الحقيقي لمقولة الشاعر والسينمائي الايطالي بيير بازوليني ((الشاعر الذي لا يخيف من الأفضل له ان يهجر العالم)).. هو إذاً الشاعر الذي لم يكن يأمل من شعره الخلود المرتجل، بل بما يمكن لهذا الشعر في ان يكون سلاحاً مثل ما هو أغنية للذين يمّمون جباههم شطر الحرية.

في حضرة النواب تلاشت هذه الفكرة، فأمام الحضور الطاغي للشاعر بل أمام تاريخ من الكفاح والشعر، ليس انت من يبادر او يقرر شكل اللقاء.

بعد ان قدمت نفسي إليه وزميلي علي حسين شكرني على تحيته في (المدى)، بمناسبة عودته الى بغداد وهو ما شجعني على أن أبادر بطلب إجراء الحوار معه.. اعتذر بسبب حالته الصحية ووعدني بحوار مطول في ما بعد قائلاً، انه بحاجة الى ان يرى العراق لتكتمل الرؤية.. لكنه اقترح ان (نسولف) .. وهذا أيضاً يرضي فضولي.. تواطأ مع خبثي الشاعر كاظم غيلان الذي كان حاضراً وكان أول من التقاه من أصدقائه في بغداد، في ان نقتنص ما سوف (نسولف به) .

كان من الطبيعي أن يكون مبتدأ الحديث عن بغداد (ديرته) وهو الذي غادرها شاباً يضج بالعنفوان، وعاد إليها شيخاً كهلاً يستعين بابن أخيه (ضرغام) الذي سرني ان النواب انتفض من غفوته في الطائرة ما ان سمع نداء طاقمها معلناً دخول أجواء بغداد ليتطلع من النافذة مستطلعاً ملامح المدينة التي غادرها مرغماً منذ أكثر من أربعين عاماً.

يقول النواب:

بغداد مدينة مبدعة، الإبداع ليس للأشخاص، المدن هي المبدعة..

يقاطعه كاظم غيلان ليسأله: بعد أربعين عاماً هل تلاشت صورة بغداد في مخيلتك؟

يصمت النواب، وكأنه يهيئ للرد على تهمة وليس على سؤال.. يقول:

بغداد في مخيلتي أبداً .. لم تتلاش صورتها .. على العكس كانت تقاوم الإمحاء وكنت أنا أستعيدها في كل لحظة على مدى هذه السنين الطويلة، وكأني لم أفارقها.. بغداد عالم من الجمال، حتى الزوايا المهملة فيها تضج بالجمال، مدينة تمنحك ألواناً لا تعرفها من قبل.. لديها طيفها الشمسي الخاص ، ألواناً أخرى غير تلك التي يضمها قوس قزح، خذ مثلاً منائرها الملونة والمشغولة بالقاشان.. أنا زرت أكثر من عاصمة عربية منائرها جميعها كانت بألوان كابية، لون الاسمنت مثلاً.

يستدرك بعد ان يكفكف دموعه قائلاً:

أول قدرة على الخلق كانت هنا، ليس المهم الخلق بل القدرة على الخلق. ربما لهذا السبب أرادت بعض الأنظمة العربية ان تجعلها قمامة التاريخ.. أنظر الآن هم ذاهبون إلى القمامة تباعاً، بينما بغداد تستعيد بهاءها ، إنها مثل طائر الفينيق تنهض من رمادها .. الطريق الوحيد، الانتقام الوحيد للخراب الذي أحدثوه هو أن نقيم لبغداد أعراساً وكرنفالات.. أستعيد هنا بعض ما قاله في قصيدته الرحيل:

إني أرى يوم انتصار الناس

رغم صعوبة الرؤيا

وأسمع من هتافي في الشوارع

سيما في ساحة التحرير

يقول : أنا ابن نخبك يا عراق وليس ذي أمل كليل بغداد، ابن محلاتها الشعبية ، من درابينها، من دكاكينها.. يستدرك قائلاً لي: انتبه كيف هو لفظ الضمير الغائب الـ(هه) وليس (ها)، قالها بالعامية.

أبادره بسؤال قصدت منه أن أقف عند روح شاعر حمل الوطن مثل صليب في رحلة الشعر والنضال. وكان الوطن امامه حيث ما يقف.

أسأله عن تلك اللحظة التي وطئت بها قدمه ارض الوطن، وان كنت أعرف انه سيستطرد مرة أخرى ليحيل الموضوع إلى فكرة أخرى يرى انها يجب ان تقال.

يقول النواب:

لقد عاودني كل ذلك العنفوان الذي أعرفه بي، ويعرفه الرعيل الذي عاصر الكفاح من اجل حرية هذا الوطن.. لحظة وصولي التقيت (الأخ مام جلال)، فبيني وبين هذا الرجل تاريخ من الصداقة والوفاء، استعدت معه سنوات مليئة بالأحداث.. صادفت أطفالاً صغاراً، بسمرتهم التي تزيل كل الأوساخ ، الطفل العراقي يختلف عن كل أطفال العالم انه عالم من التموجات والجماليات، وجوه الأطفال تنطق بالحياة، سمرتهم أيضاً تنطق يتوقف قليلاً ثم يستأنف قائلاً:

لأذكر لك حادثة عايشتها قبل أكثر من خمسين عاماً عندما تعرض عبد الكريم قاسم رحمه الله الى محاولة اغتيال.. كان الجميع بانتظار المرحوم فاضل عباس المهداوي الذي سيترأس في ما بعد محاكمة المتهمين بهذه المحاولة.. كان المهداوي في حينه في الصين، وحال وصوله الى المطار استقل سيرته الى المستشفى الذي كان يعالج فيه قاسم، وفي الطريق إليه كانت جموع الناس تصرخ.. (جاهم ابو العباس) وكان من بينهم طفل صغير مد يديه داخل السيارة عند وجه المهداوي وصاح:

(جاهم ابو العباس).. فمسك الأخير يده وقبّلها .. يضيف: هذا تاريخ يريدوننا ان ننساه لإرضاء الرجعية .. أي تفكير في مداهمة الرجعية ومحاولة إرضائها سيكون على حساب الشعب كله.

يصمت قليلاً ليستعيد قصيدة له، وكأنه يستل وثيقة توثق زمناً وأحداثاً عاشها:

بحزامك مفاتيح السوالف

وانته تدري

ضيعينه الباب والمفتاح

وانته الليل تحجي للسمج سالفة القداح

سولف يلحبيب لا يجينه فراك ويبوكك

أمس باكوك ونشدوني على أوصافك

حرت راويتهم قلبي وقلت يرهم عليه مفتاح

يضيف: شعب بهذه المواصفات لا ينكسر، مهما تراكمت عليه المحن، لابد من أن ينتصر.. أنا فخور بأني من شعب حاد كالشفرة رقيق كما الماء.

يبادره كاظم غيلان بسؤال عن زمنين عاشهما، زمن مغادرته الوطن وزمن عودته بعد عقود من الغربة والنفي القسري.

يقول النواب:

غادرت العراق بعد مقابلتين مع (صدام حسين)، استغرقت الأولى عشر دقائق والثانية ساعة ونصف الساعة.. أعلم جيداً ان هذا اللقاء كان موثقاً، لكن يبدو انه فقد مثلما فقدت الكثير من الوثائق المهمة بسبب انقلاب الأوضاع بعد سقوط الدكتاتورية.

يضيف: في المطار كان هناك أهلي وبعض من أصدقائي لوداعي.. ما زالت تلك الصورة واضحة في مخيلتي.. وبعد كل هذه السنين من الغربة عن الوطن، لم يكن ما يخيفني من العودة هو السياسة او الصراعات، بل ان أجد كتلاً من الفراغ بدل الناس الذين فارقتهم لحظة وداعي.. أقسى ما يعانيه الشاعر أو الكاتب بشكل عام هو الفراغ، الإحساس بالفراغ.. أشعر الآن وبعد يومين من عودتي بأنهم أحياء.. أنا بحاجة إلى أيام أخرى لأكتشف طبيعة هذين الزمنين.

يسأل (علي حسين) إن كان النواب يرى بالانتفاضات العربية المتلاحقة تحقيقاً لنبوءته؟

يعترض النواب قائلاً:

إنها نبوءة الشعوب العربية كلها.. الماء الراكد لم يعد راكداً، نحن إزاء عصر جديد له دماء وضحايا وطريق يفضي الى الحرية.. انه زمن العنف الثوري ليس العنف بمعناه الدموي الذي يروج له أعداء الحياة الآن بل هو أكثر إنسانية من أي شيء آخر.

كتب النواب شعره الفصيح الذي تجلت عنه نبرة الغضب والاحتجاج، لكنه أيضاً كتب بالعامية العراقية، الجنوبية تحديداً لحساسيتها وشجنها العميق.. ليس هناك من يختلف على ان (الريل وحمد) المكتوبة بالعامية كانت معينه للانطلاق في شهرة شعره الفصيح.. (الريل وحمد) التي يقول عنها انه عاش سنين طويلة على مردودها المادي في وقت كان البعض يغمز كيف للنواب ان يتدبر معيشته.

يقول النواب (البعض يقول انه يتدبرها من منح بعض الأنظمة.. أنا أبصق على هذه الأنظمة).

قال مرة، انه في الفصحى ينحت بالصخر وفي العامية يشتغل على الطين.

أقول له: كنا صغاراً نتسلق السدرة التي عند جدار بيتكم في كرادة مريم بالكرخ لنحظى برؤية آلة البيانو:

يبتسم، هذا صحيح أنا ابن الكرخ في بغداد، أسأله مرة أخرى كيف تمكنت إذاً من العامية بلهجة أهل الجنوب لتنظم بها أجمل قصائدك؟

يقول النواب:

كثيراً ما سئلت هذا السؤال، لكن دعني أقول لك: اللهجة العامية تماماً مثل امرأة منحتني هي نفسها ومكنتني منها.. المرأة لا تستطيع ان تعشقها دون ان تمكنك منها.. العامية سلسة مطواعة، لا تستعصي على النحت والاشتقاق منها..الصورة عنها أجمل وأكثر وضوحاً.. ربما لا يعرف الكثير إنني لست من الجنوب ولم أسكن الجنوب.. ذهبت منتصف الخمسينات إلى العمارة عن طريق الكحلاء، حيث عشائر (البو محمد والشموس، منهم (محمد الشموس) الذي كتبت عنه قصيدة أعتزّ بها.

عشت بالاهوار لمدة أسبوع، هناك عشقت لهجتهم وتملكتني.. هناك الصورة مائية.. كل شيء فيه ماء.. بدأت مع الشعر بالعامية وكأني من أهلها.

أسأله إن كان الشعر العامي بالنسبة له قد استنفد أغراضه؟

يقول النواب:

يساورني شعور غريب ان الشعر العامي أدى مهمته العظيمة، ونحن على أبواب مرحلة جديدة في الشعر العامي، ربما ستظهر إرهاصاتها الآن.

كتبت في الفترة الأخيرة عدداً من القصائد، لكن العائق كان مرضي(باركنسون).. أصبحت أكتب سطراً ويضيّع الثاني علي المعنى، هذا من خصائص هذا المرض، وحتى أتغلب عليه بدأت بكتابة قصائد قصيرة ، أكثّف أقصى ما أستطيع، أكتب وأحفظ، أضع البناء الكامل للقصيدة حتى أحفظها، إليك منها:

مثل تمطر بالجبايش

يبجي قلبي

أو قصيدة (خلوة العصفور).. انها مثل خلوة رابعة العدوية ولقائها بمعشوقها الخالق، المبدع هنا أتحدث عن الهور وعصفور بين أعواد القصب..

أسمع خلوة العصفور

جنة ريش ونقطة نور

عدد من القصائد القصيرة ربما ستنشر لاحقاً.

من غير سؤال يتحدث الشاعر الكبير عن شاعره المفضل (أبو صخر الهذلي)، ولكن لماذا هذا الشاعر الأموي الذي نذر شعره وحياته لبني مروان متعصباً لهم- أتساءل-

يقول النواب:

الهذلي هو أبرز وأهم شاعر في تاريخ العربية .. ثم يسترسل في قراءة رائيته المشهورة معقباً على بعض أبياتها:

أما والذي أبكى واضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمّره الأمر

يعقب: هذه ليست صورة هذه موسيقى تسمع.. المتنبي أيضاً كان كذلك.

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض العصفور بلله القطر

يعقب، بينما أقاطعه، محاولاً استعراض مهارتي في حفظ رائية الهذلي كما قرأتها في حماسة أبي تمام.. فأقرأ نفضة بدل هزة.. يعترض قائلاً الاصح هزة لأن بها ارتجاف.. بها موسيقى.

ثم يسترسل بقراءة الرائية قائلاً: بعده البيت الذي يعجز كل السرياليين بالعالم عن الوصول إليه

تكاد يدي تندى إذا ما لمستها

وينبت في أطرافها الورق النضر

يعقب: في البيت التالي يسكت الشاعر.. والشاعر الجيد هو الذي يعرف متى يسكت:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها

فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

يعقب:انه الصمت: السكون المخيف

أعلى